لقد أصبح الأمر رسميا: إذا استمرت منظمة التحرير الفلسطينية في مساعيها لنيل المطلب الفلسطيني للحصول على اعتراف الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية، فسوف يترتب على ذلك عقوبات اقتصادية. هذا التهديد بفرض العقوبات لا يصدر عن الجانب الإسرائيلي فحسب، والذي يقوم بتحويل نحو مليار دولار من الإيرادات العامة الفلسطينية للسلطة الفلسطينية سنويا، وإنما أيضا من بعض المانحين الرئيسيين الذين يبلغ متوسط المساعدات التي قدموها في السنوات الأخيرة نحو 1.5 مليار دولار سنويا.
للأسف، لقد شهدنا عقوبات مشابهة في الماضي، وإن قرناً من الاستعمار الاستيطاني يدل على أن الضرر الاقتصادي لمثل هذه الخطوة كبير جدا. فقدرة الشعب الفلسطيني، المنهك والمشتت تحت الاحتلال وفي المنفى، على الصمود سوف توضع على المحك مرة أخرى، نتيجة إستراتيجية دبلوماسية محفوفة بالمخاطر، ووسط جدل دولي كبير ومخاوف ومعارضة داخلية.
يقول أنصار هذا التوجه، وهم بشكل أساسي قيادات منظمة التحرير الفلسطينية وبعض الأكاديميين، إن الحصول على الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة أمر طبيعي، ونتيجة حتمية للصراع لإنهاء الاحتلال وممارسة حق تقرير المصير، وأنه ليس هناك مجال للتراجع الآن وفي الواقع لا يوجد أي بديل.
أما الجهات التي ترفض هذا الخيار فهي تلك المؤيدة لإسرائيل والتي تعادي حقوق الشعب الفلسطيني بأي شكل من الأشكال؛ بالنسبة لهذه الجهات، فإن ردة الفعل الوحيدة الفعّالة على هذه الخطوة هي خنق الفلسطينيين، خاصة من الناحية المالية.
وفي الوقت ذاته تعتبر شريحة واسعة من النشطاء الفلسطينيين هذه المبادرة إشكالية من الناحيتين القانونية والتمثيلية بسبب تركيزها الأساسي على الدولة وإهمالها لرزمة الحقوق المسلوبة للشعب الفلسطيني. بالنسبة لهم من الأفضل التخلي عن مطلب الاعتراف بالدولة أو ربما (على الأقل) إعادة صياغته، لأنه قد يؤدي إلى وضع أكثر تعقيدا أو إلى نصر دبلوماسي خال من المضمون في أحسن الأحوال.
هناك مواجهتان مفصليتان تلوحان في الأفق: الأولى والأكثر أهمية، هي: كيف تعالج منظمة التحرير الفلسطينية المخاوف الموجودة في صفوف الحركة الوطنية المنقسمة فصائلياً وجغرافياً والتي تشهد صراع أجيال متزايد؟ أما المسالة الثانية، فهي المحاولات الرامية إلى عرقلة أو نزع فتيل هذه المبادرة التي سوف تواجه منظمة التحرير الفلسطينية وحلفائها في الأمم المتحدة. ومن المفارقة، أن هاتين المسألتين تدفعان منظمة التحرير الفلسطينية في نفس الاتجاه، وتقويان عزمها على مواصلة إستراتيجيتها غير آبهة بعواقبها.
لقد تم رسم خطوط المعركة، ويصعب على أنصار أي من وجهات النظر المختلفة الإفلات من تهمة خدمة إحدى الأجندتين. إذا نجح الفلسطينيون في رص الصفوف وراء إستراتيجية الحصول على الاعتراف بالدولة، وهو أمر لا يبدو وشيكا، فهنالك بدائل ممكنة عن المقاومة المسلحة. وينبغي وضع استراتيجيات جديدة تهدف إلى تعزيز صمود الاقتصاد الفلسطيني والتنمية في سياق المصالحة الوطنية ومواجهة الاحتلال وإقامة سيادة فلسطينية، بشكل تدريجي إذا لزم الأمر.
***
في حال فرض العقوبات المالية، فلن تكون هذه هي المرة الأولى التي تستخدمها القوى المهيمنة خلال قرن من الصراع على الأرض والموارد بين الفلسطينيين العرب واليهود الصهاينة (لاحقاً الإسرائيليين). ومراجعة التاريخ ضرورية لفهم ديناميكيات الصراع في هذه المرحلة. فلكل عصر أدواته ومقاصده، بداية بردة فعل سلطات الانتداب البريطاني على الانتفاضة الفلسطينية الأولى المناهضة للاستعمار في ثلاثينات القرن الماضي، ومرورا بالحكم العسكري على الأقلية الفلسطينية العربية المواطنين في إسرائيل 1948-1966، وضم القدس الشرقية في عام 1967، والإدارة المدنية للحكم العسكري الإسرائيلي في الأراضي المحتلة.
كما أنها لن تكون المرة الأولى التي يؤثر فيها التمويل على استراتيجيات منظمة التحرير الفلسطينية. منذ تداعيات حرب لبنان في 1982، صارعت المنظمة التي كانت منهكة ومعزولة في المنفى من اجل الحافظ على أهمية دورها ضمن هامش ميزانية ضيقة. وبعد عام 1988، وخلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، فرضت إسرائيل عقوبات اقتصادية في جميع أنحاء الأراضي المحتلة لمواجهة الاحتجاجات الشعبية ونمو دور منظمة التحرير. وفي أعقاب حرب الخليج الأولى توقفت المساعدات العربية لسنوات عديدة، مما زاد الضغط على منظمة التحرير الفلسطينية للإذعان لشروط اتفاقيات أوسلو.
من الطبيعي أن قدرة أية حركة تحرر وطني على المناورة تعتمد على مقدار دعم الدول الحليفة لها، خاصة عندما يكون جزء كبير من أعضاء هذه الحركة في المنفى. وبالطبع ينطبق هذا على منظمة التحرير الفلسطينية. وأصبحت هذه الديناميكية أكثر خطورة، عندما تحول المصدر الرئيسي لتمويل منظمة التحرير من التمويل الخارجي إلى الإيرادات المحلية الواقعة إلى حد كبير تحت السيطرة الإسرائيلية بعد تأسيس السلطة الفلسطينية في عام 1994.
بعد وقت قصير من اندلاع الانتفاضة الثانية في أيلول 2000، قامت إسرائيل بحجب عائدات ضرائب الاستيراد التي تحصّلها إسرائيل بالنيابة عن السلطة الفلسطينية، مما دفع باتجاه "إصلاح" منظمة التحرير الفلسطينية التي تخلت عن المقاومة المسلحة بحلول عام 2005 وعادت إلى المفاوضات بعد ذلك بوقت قصير. تم إيقاف تحويل إيرادات ضرائب الاستيراد إلى السلطة الفلسطينية بالإضافة إلى حجب المساعدات المباشرة من الجهات المانحة مرة أخرى عقب الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006. واستمر حجب عائدات الضرائب والمساعدات المباشرة حتى وقوع الانقسام بين فتح وحماس في الضفة الغربية وقطاع غزة في عام 2007 لكنها استؤنفت بعد ذلك لدعم ميزانية السلطة الفلسطينية من خلال حسابات موحدة في رام الله تحت إدارة رئيس الوزراء سلام فياض.
بحلول عام 2010، أصبحت عملية دفع رواتب السلطة الفلسطينية معتمدة على تحويل إيرادات الضرائب والمساعدات من الجهات المانحة لدرجة أصبح توقفها يهدد بانهيار السلطة الفلسطينية على غرار ما حصل في الفترة ما بين 2002-2004. ومن المفارقة أن مصير السلطة الفلسطينية، وهي المظهر المؤسساتي الرئيسي داخل فلسطين لمنظمة التحرير الفلسطينية، يعتمد على استمرار تدفق "المساعدات المشروطة" لضمان وجودها.
من هذا المنظور فإن المعجزة الاقتصادية الحقيقية لنظام السلطة ما بعد 2005، ليست ازدهار الطبقة الوسطى المدنية التي تجسدت في رام الله، ناهيك عن الإنجازات المؤسساتية لبرنامج السلطة الفلسطينية خلال العامين الماضيين. إنما ما يثير الإعجاب فعلا هو أن الشعب الفلسطيني، والذي يعيش نصفه على الأقل تحت معدل الفقر، لا يزال يقاوم الاستيطان والاحتلال والتجزئة والحرمان. لذا فان الإبداع والقدرة على التكيف لدى هذا المورد البشري الأساسي ورأس المال الاجتماعي المنتشر في جميع أنحاء فلسطين وخارجها يجب أن يكون العمود الفقري لإستراتيجية فلسطينية جديدة لمواجهة العقوبات الاقتصادية والمالية في ظل جميع الظروف.
***
منذ انهيار المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية في العام الماضي، يدور نقاش تزداد حدته باستمرار في أوساط النقاد والسياسيين والجمهور الفلسطيني حول إيجابيات وسلبيات "الذهاب إلى الأمم المتحدة" في أيلول. لا يزال الارتباك متفشيا حول ماهية الإستراتيجية والغرض من هذه المبادرة، وحتى حول طبيعة الطلب الذي سوف يتم تقديمه إلى الأمم المتحدة بعد 23 سبتمبر (الموعد المحدد لخطاب رئيس منظمة التحرير الفلسطينية محمود عباس أمام الجمعية العمومية). هناك مجموعة من الخيارات المطروحة مبنية على افتراضات مختلفة حول أي من هيئات الأمم المتحدة تنوي منظمة التحرير التوجه (مجلس الأمن و / أو الجمعية العمومية) –والنتائج المرجوة (دولة كاملة العضوية أم صفة عضو مراقب).
ولكن الإجراءات هي سيدة الموقف: فعبارات صغيرة هنا وهناك، أو اختيار نقطة نظام معينة بدلا من أخرى، أو تفضيل الدخول في تحالف معين على تحالف آخر قد يغير كل شيء في مثل هذه الخطوة الدبلوماسية المحفوفة بالمخاطر. ببساطة، مجرد تقديم منظمة التحرير لطلب العضوية بوصفها الدولة عضو رقم 194، فإنها تكون قد "ذهبت" إلى الأمم المتحدة، وبإمكانها ترك الطلب معلقا. وهنالك طريق بديل يمكنه أن يأخذ الأمور إلى أبعد من ذلك، وهو الطلب من الجمعية العمومية بان "تعترف" بدولة فلسطين على حدود عام 1967 ومنحها صفة الدولة المراقب (بدلا من وضع منظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1974 وهو حركة تحرير الوطني بصفة مراقب). ومع ذلك، تبعا لقانون النتائج غير المحسوبة، فالمفاوضات المطولة إلى جانب التهديدات بفرض العقوبات التي تلوح في الأفق، قد تنتج قراراً بصياغة جديدة. ومن الأهمية بمكان أن تكون اية صياغات جديدة وفق المواقف التاريخية المجمع عليها والواردة في قرارات الأمم المتحدة الرئيسية منذ عام 1947، والتي تشكل الإطار القانوني لأي قرار حول بند "مسألة فلسطين" الموجودة على أجندة الأمم المتحدة خلال ال 65 سنة الماضية.
بغض النظر عن الهفوات الإجرائية والقانونية، بالنسبة للدول المعارضة لهذه المبادرة فان الفلسطينيين ملعونون سواء ذهبوا إلى الأمم المتحدة أم لم يذهبوا. لقد جربت حركة التحرير الوطني الفلسطيني كل شيء: 45 عاما من الكفاح المسلح والذي باء بالفشل، وانتفاضتان شعبيتان أشعل فتيلهما الشباب المحروم، وعقدان من المفاوضات الثنائية غير المثمرة، وكيان يشبه دولة (مجسدة في السلطة الفلسطينية) مبني على ضمان الأمن وتقديم الخدمات يفتقد للصلاحيات السيادية ومنقسم على نفسه بين منطقتين (منفصلتين جغرافياً).
تتلقى منظمة التحرير تحذيرات من "أصدقائها" وأعدائها على حد سواء حول عواقب وخيمة اقتصاديا وسياسيا في حال اللجوء إلى الإطار القانوني للأمم المتحدة؛ الحارس الدولي لقضية فلسطين. إذا لم تذهب منظمة التحرير إلى الأمم المتحدة فسوف يتم مسائلتها بطريقة أو بأخرى. ولا يجوز الاستهانة بالرأي العام الوطني الفلسطيني القلق من مبادرة التوجه إلى الأمم المتحدة، سواء من حيث المبدأ أو من حيث الشكل.
وتواجه منظمة التحرير الفلسطينية ضغوطا دبلوماسية لأن مبادرتها تعتبر محاولة لإعادة تعريف "عملية السلام" الثنائية المحتضرة ضمن حدود متعدد الأطراف وأوسع نطاقا. لكن قرارات الجمعية العمومية 181 و 194، وقراري مجلس الأمن 242 لعام 1967 و 338 لعام 1973 و 1397 لعام 2002 ليست مجرد حواشي تاريخية للصراع الدائرالآن. فالأمم المتحدة كانت على الدوام ساحة محورية لوضع المعايير الأساسية لحل عادل (وبالتالي دائم) لقضية فلسطين. ففلسطين متأصلة في جدول أعمال الأمم المتحدة ليس من باب الجمود ولكن بسبب قوتها في البقاء المكتسبة كونها موروث بغيض لاستعمار القرن العشرين. بالتالي إعادتها مرة أخرى إلى الأمم المتحدة قد تكون بالفعل خطوة أولى هامة في طريق تطبيق الدروس المستقاة من الـعشرين عاما الماضية من الجهود الدبلوماسية الفاشلة.
ومن المتوقع ان نشهد محاولات لإفراغ هذه المبادرة عن طريق استخدام لغة "خلاقة" وصياغات عامة لأهدافها وإجراءاتها ونتائجها. واحد المصائد الأخرى المحتملة هو إقرار فترة انتقالية أخرى، وكانت أخر نسخة من مثل هذا الخيار هي خطة السلطة الفلسطينية "موعد مع الحرية 2009-2011". لكن خيار من هذا القبيل يعزز إمكانية وقوع عواقب اقتصادية كبيرة وردود فعل شعبية ضد الوضع الراهن، نظرا لتاريخ خذلان التوقعات عند الفلسطينيين.
من وجهة نظر منظمة التحرير الفلسطينية، التراجع ليس خيارا. بالرغم من أن النقاش الداخلي الحيوي يكون بالعادة مؤشراً على وجود ثقافة التعددية السياسية، لكن هذا النقاش لم تؤثر على الخطط الحالية لمنظمة التحرير. المبادرة الفلسطينية باتت وشيكة، والملايين من الفلسطينيين وغيرهم سوف يراقبوا عن كثب تجليات أحداثها.
بغض النظر عن المقاصد والأغراض، قضية فلسطين تعود إلى الأمم المتحدة في سبتمبر الحالي. وعندما تشتد صعوبة الوضع المالي، ببساطة سوف ينهار الاقتصاد الفلسطيني. لذا، فإن ما يهمني بصفتي اقتصادي مختص في التنمية هو دراسة ما يمكن لي أن ادعي المعرفة فيه.
***
قليل جدا من سيل التحليلات السياسية والقانونية والإعلامية لهذه المسألة تطرق لما قد يحدث -بما في ذلك من الناحية الاقتصادية- بعد أن تضع المعركة الدبلوماسية أوزارها. ما هي آثار المواجهة في الأشهر المقبلة وانعكاساتها الدبلوماسية على الوضع المعيشي للفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة؟ هل تستمر الحياة في ظل وحدة اقتصادية بين ستة ملايين يهودي إسرائيلي وخمسة ملايين فلسطيني عربي، والذين يعيشون تحت نفس النظام المالية والتجاري والنقدي والأمني (الموجه لمصلحة الاقتصاد اليهودي الإسرائيلي) منذ عام 1967؟ وكيف يمكن أن تؤثر هذه المبادرة الفلسطينية على مصير أكثر من مليون مواطن عربي فلسطيني في إسرائيل والملايين من اللاجئين الفلسطينيين؟
بالنسبة لمعظم الجهات المانحة، مبادرة منظمة التحرير الفلسطينية قد لا تبرر إعادة النظر في التزاماتها التي تقارب المليار ونصف دولار من المعونات السنوية، والتي تمثل نحو خمس الدخل القومي الفلسطيني. ولكن بالنسبة لإسرائيل، والتي تسيطر من خلال التدفقات التجارة الخارجية على نسبة أكبر من الإيرادات العامة الفلسطينية، فان الاقتصاد الفلسطيني كان على الدوام سوقا أسيرة. أما لمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، والتي لا يوجد لديها مدخرات للطوارئ وللتعامل مع ما قد يحدث بعد سبتمبر، فإن أي تخفيض في ميزانية المعونات هو مصدر قلق فوري ومهم. ويشكل ال170 الف موظف في القطاع العام مصدرا رئيسيا للتظلم إذا لم تعد الحكومة قادرة على الوفاء بالتزاماتها. أما الاقتصاد الفلسطيني الممزق فهو حساس لأي صدمة أخرى تتعرض لها بنيته الضعيفة، مما يجعل قدرتها على البقاء موضع نقاش. هذا على الرغم من الانتعاش الذي حظي باهتمام شديد مؤخرا والذي شمل "بناء مؤسسات الدولة"، وعقد من الإصلاح على نهج إجماع واشنطن و"الحكم الصالح".
سيدفع الاقتصاد الفلسطيني الثمن، بطريقة أو بأخرى بعد أيلول.
***
وأيا كانت النتيجة، فإن الإصرار على الاعتراف بدولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة يعني أن على منظمة التحرير الإيفاء بهذه المسؤولية عن طريق البدء في ممارسة دور كيان ذو سيادة حيثما أمكن ذلك. هذه ليست مسألة بروتوكولية وعلاقات دبلوماسية فحسب، وإنما يجب ان يظهر تحول كبير على أرض الواقع، بالتفاوت بين الضفة الغربية وقطاع غزة. لقد شهدنا إعلان استقلال دولة فلسطين من قبل منظمة التحرير في عام 1988، وفي عام 2011 قد نرى اعترافاً دولياًَ بذلك الإعلان متأخرا. والسؤال هو هل المرحلة الحالية سوف توفر فرصة للبدء فعليا في تأسيس الدولة في عام 2012، بالأخذ في الاعتبار كل ما قد تم تعلمه (أوما لم يتم تعلمه)؟
في قطاع غزة على سبيل المثال، فان سيطرة الاحتلال الفعلية على السياسات الاقتصادية (المالية، والتجارة والصناعة والاستثمار، والخدمات المصرفية) أقل مما هي عليه في الضفة الغربية، ويمثل هذا شرخا في منظومة الهيمنة الاقتصادية التي تشير إلى وجود مساحة مناورة على مستوى السياسات من المغري العمل على استغلاها و توسيعها. وفي حال سمحت المصالحة الوطنية بعودة منظمة التحرير إلى غزة، فسوف يترتب على ذلك آثار اقتصادية هائلة ناجمة عن إعادة إنشاء مركز الثقل المالي الفلسطيني في غزة كما كان الحال ما بين 1994-2001. بالرغم من أن هذا يتطلب ترتيبات فلسطينية جديدة لتقاسم السلطة، ولكن ليس هناك أدنى شك في أن الاقتصاد الفلسطيني سيدفع ثمنا باهظا من دون وحدة وطنية وبذل جهود متواصلة للتصدي للتجزئة الجغرافية. وعند دراسة أي استراتيجيه لبناء الدولة، يجب التعامل بجدية تامة مع خطر نشوء "بانتوستانات" يتم ادارتها من خلال مستويات مختلفة من سلطات الاحتلال والسلطات المحلية. ولا تقل الأبعاد الاقتصادية لمثل هذه النتيجة خطورة مما كانت عليه جنوب أفريقيا حيث تحول الاستعمار الاستيطاني الى نظام فصل عنصري.
ردا على العقوبات المتوقعة، على الدولة الفلسطينية المفترضة أن تأخذ من قطاع غزة مقرا لها وأن تقوم بإعداد خطة لوضع ترتيبات بديلة، للمالية العامة والتجارة الخارجية. سيتعين عليها أن تبتعد عن نموذج والوصفات الليبرالية الجديدة الفاشلة لسياسة السلطة الفلسطينية الاقتصادية المعمول بها في الآونة الأخيرة. ففتح حدود قطاع غزة مع مصر ممكن، خاصة ان إسرائيل تخلت فعليا عن تطبيق الاتحاد الجمركي هناك منذ عام 2007 والذي لا يزال ساري العمل به في الضفة الغربية. في غزة على الأقل، عائدات الضرائب التجارية لم تعد سيفا تسلط على رقبة الجمهور الفلسطيني.
حتى مع استمرار السيطرة الإسرائيلية على المجال الجوي والساحل الفلسطيني، يمكن تحويل مجرى تجارة قطاع غزة مع بقية العالم للعبور من خلال مصر والأردن. كما ويمكن أن تتدفق المساعدات المالية العربية للتعمير والتنمية بحرية وتوظيف القوى العاملة القادرة والمعطلة قسرا. ويمكن النظر في وضع ترتيبات نقدية استباقية بما يتفق مع رؤية تنموية وطنية. ويمكن أيضا تركيز المساعدات على جوانب الرعاية الاجتماعية الأكثر إلحاحا، والبنية التحتية وحاجات إعادة تأهيل القطاع الإنتاجي.
كما ويمكن أن يصبح انتعاش غزة، مدعما بدرجة من الاستقرار الاقتصادي في الضفة الغربية، بمثابة نواة لدولة فلسطين التنموية المتكاملة اقتصاديا مع عمقها العربي وتتمتع بدرجة مبدئية من السيادة الحقيقية. وفي حين يمكن لدولة فلسطينية أن تخلق لنفسها حيزاً امنياً وسياسياً واقتصادياً مستقلاً في قطاع غزة، لا يمكن ان يتم التعامل مع مصير الضفة الغربية المحتلة بمعزل عن غزة، كما تريد ذلك السياسة الاستعمارية.
وينسجم مبدأ التوجه إلى الأمم المتحدة بنقل الوضع الحالي للإدارة المالية العامة الفلسطينية والأمن وغيرها من الخدمات التي تقدمها السلطة الفلسطينية في أراضي الضفة الغربية، التي لا تزال تحت سيطرة إسرائيل، ليصبح تحت وصاية دولية بالتشاور مع منظمة التحرير الفلسطينية حتى يتم إنهاء الاحتلال، وإذا تم ذلك، يمكن للوصاية الدولية أن تدير بروتوكول العلاقات الاقتصادية المعمول به منذ عام 1994 جنبا إلى جنب مع الدوائر الفنية التي تديرها السلطة الفلسطينية الآن ويمكن للسلطات المحلية نفسها تقديم الخدمات الاجتماعية وإدارة المرافق العامة.
هذا الاحتمال من شأنه أن يخلق مشهداً جديداً، قد يكون فيه إفراط في التفاؤل ولكن هذه الرؤية تتيح المجال لتحرك نحو تقدم سلمي باتجاه تحقيق الحقوق الفلسطينية، مع التقليل من خطر إبطال الإنجازات المؤسساتية والدبلوماسية الفلسطينية التي اكتسبت على مدى العقود الماضية.
***
كما هو الحال في المنطقة، فان الشباب الفلسطيني فاقد الثقة في منظمة التحرير الفلسطينية وقادتها الهرمة. فتذمرات الحراك الاجتماعي الفلسطيني مؤخرا تشير إلى أن الكثيرين قد فقدوا الاحترام لقرارات و"حكمة" النخب الحاكمة. بالإضافة إلى الاحتقان الناتج عن الحركة الشعبية اللاعنفية/السلمية ضد الاحتلال الإسرائيلي وبالأخص حملة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، كل هذا يشكل خلطة "شديدة الانفجار".
وان تم إصلاح منظمة التحرير وأصبحت خاضعة للمساءلة، وتحررت من عبء الإدارة المباشرة للضفة الغربية المحتلة، يجب أن تكون على استعداد للقيام بتعبئة شعبية وسلمية لفترة طويلة الأمد. وينبغي على منظمة التحرير ان تستوحي من نموذج جديد لنمو مصحوب بالتكافؤ في غزة والذي يعكس التغييرات الجارية في المنطقة. فبناء دولة فلسطينية تنموية يستدعي أكثر من مجرد حلول تقنية وإنما تحول مجتمعي لا يقل أهمية عما يحدث في الربيع العربي.
إذا كانت محاولة الحصول على الاعتراف بالدولة في الأمم المتحدة تعتبر تهديداً لـ"عملية السلام"، فإن الوقت قد حان للمجتمع الدولي أن يقدم شيئا جديدا بدلا من الازدهار الاقتصادي في فقاعات في الضفة الغربية، الموجه من الجهات المانحة. وسوف يتطلب ذلك وضع حد لسياسة الدعم الأعمى للاحتلال وفي الوقت نفسه رمي المساعدات على الفلسطينيين للحفاظ على هدوءهم -- انه فعلا السلام الاقتصادي! للأسف، فان الإنجاز الأكثر ديمومة لعملية السلام التي انطلقت منذ عشرين عاما في مدريد هو الاستيطان وإطالة عمر الاحتلال الإسرائيلي. ينبغي على أولئك الذين يعارضون المبادرات السلمية الدبلوماسية والقانونية تقديم رؤية هادفة وفعالة بديلة من اجل تحقيق الحرية والسيادة الفلسطينية التي من شأنها أن تحقق إنهاء الاحتلال وليس مجرد خريطة طريق أخرى لا نعرف إلى أين تأخذنا.
على افتراض أن هذا التغيير الكبير لن يحدث، وردا على أي عقوبات يتم فرضها فينبغي على الشعب الفلسطيني بأن يكون مستعد ويأخذ بزمام المبادرة عن طريق خوض حملة مستمرة لتحقيق حقه في تقرير المصير. إذا وضعنا الجدل حول الآثار القانونية والسياسية جانبا، فيعد قرار التوجه إلى الأمم المتحدة للحصول على اعتراف بالدولة في جوهره صرخة استغاثة من شعب سئم مشهداً كافكاوياً مليئاً بالوعود الكاذبة والقيادة المشتتة والتشرد الدائم. لقد جربت الحركة الوطنية الفلسطينية كل شيء، ولكن حتى الآن لم تتمكن من الوفاء بوعدها "بتحرير الأرض والإنسان"، الذي لم تحققه لا للفلسطينيين الذين يعيشون كـ"مواطنين" بدون مواطنة تحت الحكم الإسرائيلي، ولا للاجئين الذين ينتظرون العودة من الشتات.
لذا فلتستأنف عملية التحرر الوطني، ولتتفتح ألف وردة فلسطينية، لربما ينبت الربيع الفلسطيني.
للنسخة الإنجليزية من المقال إنقر هنا